وأيده السيوطي في " التدريب " فقال عقبه: " فلا يحتاج إلى رفع الجهالة عنهم بتعداد الرواة، قال العراقي: هذا الذي قاله النووي متجه إذا ثبتت الصحبة، ولكن بقي الكلام في أنه هل تثبت الصحبة برواية واحد عنه أولا تثبت إلا برواية اثنين عنه، وهو محل نظر واختلاف بين أهل العلم، والحق أنه إن كان معروفا بذكره في الغزوات أو في من وفد من الصحابة أو نحوذلك فإنه تثبت صحبته ".
قلت: فتأمل كلام العراقي هذا يتبين لك بطلان قول الكوثري، لأنه تساهل في إثبات عدالة التابعي الكبير فلم يشترط فيه ما اشترطه العراقي في إثبات الصحبة المستلزمة لثبوت العدالة! فإنه اشترط مع رواية الواحد عنه أن يكون معروفا بذكره في الغزوات أو الوفود. وهذا ما لم يشترط الكوثري مثله في التابعي!
فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولعله قد وضح لك أنه لا فرق بين التابعي الكبير ومن دونه في أنه لا تقبل روايتهم ما لم تثبت عدالتهم. وتثبت العدالة بتنصيص عدلين عليها أو بالاستفاضة. كما هو معلوم.
6 - قال: " أما من بعدهم فلا تقبل روايتهم ما لم تثبت عدالتهم وهكذا ". قلت: بل والتابعي الكبير كذلك كما حققناه في الفقرة السابقة.
7 - قال: " والحارث هذا ذكره ابن حبان في " الثقات "، وإن جهله العقيلي وابن الجارود وأبو العرب ". قلت: فيه أمران:
الأول: أنه تغافل عن أئمة آخرين جهلوه، منهم الإمام البخاري والذهبي والعسقلاني وغرضه من ذلك واضح وهو الحط من شأن هذا التجهيل!
والآخر: اعتداده بتوثيق ابن حبان هنا خلاف مذهبه الذي يصرح في بعض تعليقاته (1) بأن ابن حبان يذكر في " الثقات من لم يطلع على جرح فيه، فلا يخرجه ذلك عن حد الجهالة عند الآخرين، وقد رد شذوذ ابن حبان هذا في (لسان الميزان) ". وهذا من تلاعبه في هذا العلم الشريف، فتراه يعتد بتوثيق ابن حبان حيث كان له هوى في ذلك كهذا الحديث، وحديث آخر في التوسل كنت خرجته فيما تقدم برقم (23) ، ولا يعتد به حين يكون هو اه على نقيضه كحديث الأوعال وغيره، وقد شرحت حاله هذا هناك بما فيه كفاية. ولكن لابد لي هنا من أن أنقل كلامه في راوي حديث الأوعال وهو عبد الله بن عميرة راويه عن العباس بن عبد المطلب، فهو تابعي كبير، لتتأكد من وجود التشابه التام بينه وبين الحارث بن عمرو الراوي للحديث عن معاذ، ومع ذلك يوثق هذا بذاك الأسلوب الملتوي، ويجهل ذاك وهو فيه على الصراط السوي! قال في " مقالاته " (ص 309) : " وقال مسلم في " الوحدان " (ص 14) : " انفرد سماك بن حرب بالرواية عن عبد الله بن عميرة ". فيكون ابن عميرة مجهول العين عنده، (يعني مسلما) لأن جهالة العين لا تزول إلا برواية ثقتين، (تأمل) وقال إبراهيم الحربي - أجل أصحاب أحمد - عن ابن عميرة لا أعرفه. وقال الذهبي في " الميزان " عن عبد الله بن عميرة: فيه جهالة ".
قلت: ثم وصفه الكوثري بأنه شيخ خيالي! وبأنه مجهول عينا وصفة! ونحوه قوله في " النكت الطريفة " (ص 101) وقد ذكر حديثا في سنده عبد الرحمن بن مسعود: " وهو مجهول. قال الذهبي: " لا يعرف " وإن ذكره ابن حبان في الثقات على قاعدته في التوثيق "! وقال في (قابوس) . " وإنما وثقه ابن حبان على طريقته في توثيق المجاهيل إذا لم يبلغه عنهم عنهم جرح، وهذا غاية التساهل "!! (ص 48 منه) .
فقابل كلامه هذا بالقاعدة التي وضعها من عند نفسه في قبول حديث التابعي الكبير حتى ولونص الأئمة على جهالته تزداد تأكدا من تلاعبه المشار إليه. نسأل الله السلامة. ولوكانت القاعدة الموضوعة صحيحة لكان قبول حديث ابن عميرة هذا أولى من حديث الحارث، لأنه روى عن العباس فهو تابعي كبير قطعا، ولذلك جعله ابن حجر من الطبقة الثانية، بينما الحارث إنما يروي عن بعض التابعين كما سبق، ولكن هكذا يفعل الهوى بصاحبه. نسأل الله العافية.
8 - قال أخيرا: " وقد روى هذا الحديث عن أبي عون عن الحارث - أبو إسحاق الشيباني، وشعبة بن الحجاج المعروف بالتشدد في الرواية، والمعترف له بزوال الجهالة وصفا عن رجال يكونون في سند روايته "! قلت: فيه مؤاخذتان: الأولى: أن كون شعبة معروفا بالتشدد في الرواية لا يستلزم أن يكون كل شيخ من شيوخه ثقة، بله
من فوقهم، فقد وجد في شيوخه جمع من الضعفاء، وبعضهم ممن جزم الكوثري نفسه بضعفه! ولا بأس من أن أسمي هنا من تيسر لي منهم ذكره:
1 - إبراهيم بن مسلم الهجري. 5 - جابر الجعفي.
6 - داود بن فراهيج.
7 - داود بن يزيد الأودي.
8 - عاصم بن عبيد الله (قال الكوثري في " النكت " (ص 74) : ضعيف لا يحتج به) .
9 - عطاء بن أبي مسلم الخراساني.
10 - علي بن زيد بن جدعان.
11 - ليث بن أبي سليم.
12 - مجالد بن سعيد: قال الكوثري في " النكت " (ص 63) : " ضعيف بالاتفاق " وضعف به حديث: " زكاة الجنين زكاة أمه "! ثم ضعف به فيه (ص 95) حديث " لعن الله المحلل والمحلل له "! فلم يتجه من تضعيفه إياه أنه من شيوخ شعبة! (2) .
13 - مسلم الأعور.
14 - موسى بن عبيدة.
15 - يزيد بن أبي زياد.
16 - يزيد بن عبد الرحمن الدالاني.
17 - يعقوب بن عطاء.
18 - يونس بن خباب.
من أجل ذلك قالوا في لم المصطلح: وإذا روى العدل عمن سماه لم يكن تعديلا عند الأكثرين، وهو الصحيح كما قال النووي في " التدريب " (ص 208) وراجع له شرحه " التقريب " وإذا كان هذا في شيوخه فبالأولى أن لا يكون شيوخ شيوخه عدولا إلا إذا سموا، فكيف إذا لم يسموا؟!
الأخرى: قوله: " والمعترف له بزوال الجهالة.... ". أقول: إن كان يعني أن ذلك معترف به عند المحدثين، فقد كذب عليهم، فقد عرفت مما سردناه آنفا طائفة من الضعفاء من شيوخ شعبة مباشرة، فبالأولى أن يكون في شيوخ شيوخه من هو ضعيف أو مجهول، وكم من حديث رواه شعبة، ومع ذلك ضعفه العلماء بمن فوقه من مجهول أو ضعيف، من ذلك حديثه عن أبي التياح: حدثني شيخ عن أبي موسى مرفوعا بلفظ: " إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعا ".
فضعفوه بجهالة شيخ أبي التياح كما سيأتي برقم (2320) ، ومن ذلك حديث " من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ... " الحديث. رواه شعبة بإسناده عن أبي المطوس عن أبي هريرة مرفوعا: فضعفه البخاري وغيره بجهالة أبي المطوس فراجع " الترغيب والترهيب " (2 / 74) ، و" المشكاة " (2013) ، و" نقد الكتاني " (35) . وإن كان يعني بذلك نفسه، أي أنه هو المعترف بذلك، فهو كاذب أيضا - مع ما فيه من التدليس والإيهام -، لأن طريقته في إعلال الأحاديث بالجهالة تناقض ذلك، وإليك بعض الأمثلة:
1 - عبد الرحمن بن مسعود، صرح في " النكت الطريفة " (ص 101) بأنه " مجهول " مع أنه من رواية شعبة عنه بالواسطة! وقد قمت بالرد عليه عند ذكر حديثه الآتي برقم (2556) وبيان تناقضه، وإن كان الرجل فعلا مجهولا.
2 - عمرو بن راشد الذي في حديث وابصة في الأمر بإعادة الصلاة لمن صلى وراء الصف وحده. قال الكوثري في " النكت " (ص 28) : " ليس معروفا بالعدالة فلا يحتج بحديثه ". مع أنه يرويه شعبة بإسناده عنه، وهو
مخرج في " صحيح أبي داود " (683) ، و" إرواء الغليل " (534) . وراجع تعليق أحمد شاكر على الترمذي (1 / 448 - 449) ".
3 - وكيع بن حدس الراوي عن أبي رزين العقيلي حديث كان في عماء ما فوقه هو اء، وما تحته هو اء ... " قال الكوثري في تعليقه على " الأسماء " (ص 407) : " مجهول الصفة ". مع أنه يعلم أن شعبة قد روى له حديثا آخر عند الطيالسي (1090) وأحمد (4 / 11) . فما الذي جعل هؤلاء الرواة مجهولين عند الكوثري، وجعل الحارث بن عمرو معروفا عنده وكلهم وقعوا في إسناد فيه شعبة؟! الحق، والحق أقول: إن هذا الرجل لا يخشى الله، فإنه يتبع هو اه انتصارا لمذهبه، فيبرم أمرا أو قاعدة من عند نفسه لينقضها في مكان آخر متجاوبا مع مذهبه سلبا وإيجابا. وفي ذلك من التضليل وقلب الحقائق ما لا يخفى ضرره على أهل العلم. نسأل الله العصمة من الهوى. وبعد، فقد أطلت النفس في الرد على هذا الرجل لبيان ما في كلامه من الجهل والتضليل نصحا للقراء وتحذيرا، فمعذرة إليهم.
هذا ولا يهولنك اشتهار هذا الحديث عن علماء الأصول، واحتجاجهم به في إثبات القياس، فإن أكثرهم لا معرفة عندهم بالحديث ورجاله، ولا تمييز لديهم بين صحيحه وسقيمه، شأنهم في ذلك شأن الفقهاء بالفروع، إلا قليلا منهم، وقد مر بك كلام إمام الحرمين في هذا الحديث - وهو من هو في العلم بالأصول والفروع، فماذا يقال عن غيره ممن لا يساويه في ذلك بل لا يدانيه، كما رأت نقد الحافظ ابن طاهر إياه، ثم الحافظ ابن حجر من بعده، مع إنكاره على ابن طاهر سوء تعبيره في نقده. ثم وجدت لكل منهما موافقا، فقد نقل الشيخ عبد الوهاب السبكي في ترجمة الإمام من " طبقاته " عن الذهبي أنه قال فيه: " وكان أبو المعالي مع تبحره في الفقه وأصوله، لا يدري الحديث! ذكر في كتاب " البرهان " حديث معاذ في القياس فقال: هو مدون في " الصحاح " متفق على صحته. كذا قال، وأنى له الصحة، ومداره على الحارث بن عمرو وهو مجهول، عن رجال من أهل حمص لا يدري من هم؟ عن معاذ ".
ثم تعقبه السبكي بنحو ما سبق من تعقب الحافظ لابن طاهر، ولكنه دافع عنه بوازع من التعصب المذهبي، لا فائدة كبرى من نقل كلامه وبيان ما فيه من التعصب، فحسبك أن تعلم أنه ذكر أن الحديث رواه أبو داود الترمذي، والفقهاء لا يتحاشون من إطلاق لفظ " الصحاح " عليها.
فكأن السبكي يقول: فللإمام أسوة بهؤلاء الفقهاء في هذا الإطلاق! فيقال له: أو لوكان ذلك أمرا منكرا عند العلماء بالحديث؟! وفي الوقت نفسه فقد تجاهل السبكي قول الإمام في الحديث " متفق على صحته "، فإنه خطأ محض لا سبيل إلى تبريره أو الدفاع عنه بوجه من الوجوه، ولذلك لم يدندن السبكي حوله ولو بكلمة.
ولكنه كان منصفا حين اعترف بضعف الحديث، وأن الإمام صحح غيره من الأحاديث الضعيفة فقال: " وما هذا الحديث وحده ادعى الإمام صحته وليس بصحيح، بل قد ادعى ذلك في أحاديث غيره، ولم يوجب ذلك عندنا الغض منه ".
وأقول أخيرا: إن وصف الرجل بما فيه ليس من الغض منه في شيء، بل ذلك من باب النصح للمسلمين، وبسبب تجاهل هذه الحقيقة صار عامة المسلمين لا يفرقون بين الفقيه والمحدث، فيتوهمون أن كل فقيه محدث، ويستغربون أشد الاستغراب حين يقال لهم الحديث الفلاني ضعيف عند المحدثين وإن احتج به الفقهاء، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، تجدها مبثوثة في تضاعيف هذه " السلسلة "، وحسبك الآن هذا الحديث الذي بين يديك.
وجملة القول أن الحديث لا يصح إسناده لإرساله، وجهالة راويه الحارث بن عمرو، فمن كان عنده من المعرفة بهذا العلم الشريف، وتبين له ذلك فبها، وإلا فحسبه أن يستحضر أسماء الأئمة الذين صرحوا بتضعيفه، فيزول الشك من قلبه، وها أنها ذا أسردها وأقربها إلى القراء الكرام:
1 - البخاري.
2 - الترمذي.
3 - العقيلي.
4 - الدارقطني.
5 - ابن حزم.
6 - ابن طاهر.
7 - ابن الجوزي.
8 - الذهبي.
9 - السبكي.
10 - ابن حجر كل هؤلاء - وغيرهم ممن لا نستحضرهم - قد ضعفوا هذا الحديث، ولن يضل بإذن الله من اهتدى بهديهم، كيف وهم أولى الناس بالقول المأثور: " هم القوم لا يشقى جليسهم ". هذا ولما أنكر ابن الجوزي صحة الحديث أتبع ذلك قوله: " وإن كان معناه صحيحا " كما تقدم.فأقول: هو صحيح المعنى فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكنه ليس صحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن وإنزاله إياه معه، منزلة الاجتهاد منهما. فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب.
وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معا وعدم التفريق بينهما، لما علم من أن السنة تبين مجمل القرآن، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه كما هو معلوم. ومن رام الزيادة في بيان هذا فعليه برسالتي " منزلة السنة في الإسلام وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن ". وهي مطبوعة، وهي الرسالة الرابعة من " رسائل الدعوة
السلفية ". والله ولي التوفيق
____
(1) انظر " مقالات الكوثري " (ص 309) ، و" شروط الأئمة الخمسة " (ص 45) .(2) ولا يفوتني التنبيه على أن الحديثين المذكورين صحيحان رغم أنف الكوثري، وتعصبه المذهبي، وهما مخرجان في " إرواء الغليل " (2606 و1955) . اهـ.
المفضلات