حديث الصور والمشاعر
عندما توفي الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز رحمه الله أمير منطقة مكة سنة (1428) وصلي عليه في الرياض , نقلت شعائر الصلاة عليه في القنوات الفضائية ,كان الناس عندنا في السعودية متسمرين عند الشاشات يشاهدون مراسم التشييع والصلاة عليه .
في الجامع الكبير في الرياض حضر مسئولون كُثر من الدول الإسلامية , وجميع أفراد الأسرة الملكية , وجميع الوزراء والمسئولين للصلاة على الأمير عبدالمجيد رحمه الله , كان المسجد محاطاً بألوف من العسكر والجنود , وفي لحظة سريعة بدا بين أمام المشاهدين و الحضور خيال ابن جبرين يدخل من الباب الأمامي , اصطفاه وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز ليكون بجواره , فما بينهما من الحب والصفاء أكبر من أن تكدره ظنون وأراجيف الأعداء , أدى السنة وقدّم واجب العزاء في الفقيد وتكلم مع الأمير نايف ثم تحولت الكاميرا عنهم قليلاً .
ولكن ملايين المشاهدين في السعودية وغيرها تفاجئوا بتغيير مكان ابن جبرين بعد لحظات معدودة , فيكون له مكان جديد في صدر المقام , حيث أصبح بجوار الملك وكبار الأسرة المالكة , ورأى الناس ولاة الأمر يقدمونه على أبنائهم وضيوف الدولة والوزراء والأمراء , وهم فرحين بكونه معهم , فلسان حال الجميع يقول له : ( يا إمام أنت أعلم من يمشي اليوم على وجه جزيرة العرب , فتعال لتدعوا لأميرنا وأخينا الراحل بالرحمة والغفران , فبمثلك من الصالحين تلتمس إجابة الدعوة ) .
لم يكن ابن جبرين مجهول الشكل عند الأمراء الكبار, فهم يعرفونه جيداً ويعرفهم , ولم يكونوا يحملون له إلا الحب الذي يبادلهم إياه , ولم يكن عنيفاً في تعامله أو قاسياً في خطابه , بل كان عالماً ربانياً .
ومجالس عدد من كبار الأمراء ذوي المناصب الرفيعة في السعودية يغشاها العلماء وطلبة العلم , وليس الأمراء كما يصورهم بعض الجهلة بعيدون عن العلم وأهله , ولكن الإعلام العربي والمحلي في واد والحياة الدينية في البلد في واد آخر , فغالب أخبار الإعلام وصوره عن سفلة المغنين وأراذل الناس , وأما أخبار العلم وأهله , وأخبار الدروس العلمية في المساجد وأصحابها فلا تذكر إلا للنقد والتشويه , وأما زيارة العلماء من أهل السنة لولاة الأمر فهي ليست للبهرجة والضجيج الإعلامي كما يظن الناس , بل هناك تلاحم ومودة ومحبة أكبر من زيارة رسمية ربما لا يريدها الضيف , ولذلك تعجب المصورون من هذا المنظر ومن هذا الكهل الذي لا يعرفه أكثرهم ويتغير مكانه أكثر من مرة في محبة وإجلال له , وتداولت معظم الصحف ومواقع الأخبار هذه الصور وكأنهم يشاهدون هذا الرجل لأول مرة .
بقيت هذه الصور في الإنترنت يشاهدها من يرغب في ذلك ويحمدون لولاة امرهم هذا الحب للعلماء الربانيين .
لم يكن ابن جبرين بعيداً عن الناس بل هو محبوب من كل الطبقات , يعرف الجميع أنه صادق , لا يستغل علمه لتلميع نفسه , ولا لبناء شعبية لقومه , ولا للانتصار لحزب معين ضد آخر , وإنما هو يدعوا الناس ليطيعوا ربهم , وأن يطبقوا الشريعة على أنفسهم , فهو معلم ومربي وأب للمجتمع .
عندما سقط بن جبرين مريضاً في المستشفى قبل أربعة أشهر , كان أول الزائرين له الملك , وإذا قيل الملك عبد الله بن عبد العزيز فمعنى ذلك أن هذا المريض يهم أمره الكبراء قبل العامة , وهذا الملك قريب من الناس عطوف على الشعب , وابن جبرين مريض يحمل ضمير الشعب بين جنبيه , وهو مريض يحمل هَمّ الناس أينما كان , كسر الملك قواعد ومثاليات الدول في زيارة الرسميين فقط من الشخصيات أو أصحاب المناصب العليا , وذهب مباشرة ليعود رجلاً يحب الناس ويحبونه ,أجتمعت طيبة قلب الملك خادم الحرمين مع طيبة قلب ابن جبرين , فهما في رقة الطبع وحب الناس يشيركان سوياً , جلس الملك المتواضع على مقعد صغير يرمقه ويدعوا له ويباسطه في مرضه , وبعد أن زاره أمرَ بأن تتكفل الدولة بعلاجه في أرقى مستشفيات العالم .
قبل بضع سنوات في عام (1426) وفي مدينة جدة , عندما سمع ابن جبرين أن شيخ الحجاز ( سفر الحوالي ) قد مزق المرض جسمه النحيل , وأنه طريح الفراش في المستشفى وفي غرف العناية الخاصة , أصرّ ابن جبرين على مقابلته والاطمئنان على حالته , وذهب بتواضع الزهاد ليعوده وينظر في حاله , فهو يعلم أنّ الحوالي رجل أمة ورجل علم , رجل لم يكن ليعيش لنفسه فقط , وهي صفات اشترك فيها العظيمان بطل الصحراء وبطل الجبال .
كان ابن جبرين يحضنه ويقبله كأب يخاف أن يفقد ولده الحبيب ,كان يمسح بيده على جسمه ليخفف مصابه ومصاب أهله , تسير أصابعه الجميلة على أطراف جسمه ووجهه وهو يدعوا له , يحاول أن يرفع من عزيمته وأن يبشره بثواب الله ورضوانه , ينظر ابن جبرين للحوالي كما ينظر لأسد سقط وخارت قواه بإرادة الله لا بإرادة الناس , يفكر في الوعي العلمي الذي نشره وأوذي بسببه , كأنه يقول في نفسه لقد أوذيت أنا وأنت , وهاجمنا الكتاب والناس , لقد حملت همّ أمتك ودينك ولكنك سقطت قبلي على السرير الأبيض.
وتناقل الناس حديث الزيارة التي صورها بعض المحبين بدون أن يكون مع ابن جبرين فريق من الإعلاميين والصحافيين , لكنها صُورٌ التقطت بعفوية مفاجأة من بعض أقارب الحوالي ممن حضر اللقاء ونشرها في الإنترنت وتداولها الناس .
لم يمض وقت طويل حتى رأينا المرض يعصف بابن جبرين نفسه , وينام على سرير المرض ترقبه عيون محبيه , وهي دامعة خاشعة لمصابه وألمه , وتصبح أخباره وسفره لألمانيا حديث الناس .
وهي سنة الله في أعلام الأمة وقادتها , يُقّطعهم المرض كما يقطع غيرهم من الناس, يتألمون ونتألم لألمهم , يحملون همّ الناس وربما حمل بعض المخلصين همومهم , يشاركون الناس أفراحهم وأحزانهم , يعملون أعمالاً عظيمة لوجه ربهم الكريم بدون أن يطلبوا من حطام الدنيا شيئاً , بذلوا أوقاتهم وأنفسهم لخدمة هذا الدين , ضحوا بأنفس ما يملكون من المال والجاه و الوقت لتكون كلمة الله هي العليا , ولن يكون مرضهم عائقاً أمام انتشار الخير والعلم بإذن الله , فأمة أنجبت من قبلهم عظماء ولازالت تنجب عظماء لن تكون عقيمة بإذن الله تعالى .
انتهى.
المفضلات