الشيخ موسى بن عبدالله آل عبدالعزيز*
* رئيس تحرير مجلة السلفيةترديد "ابن لادن"، لحديثين صحيحين: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" و"لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فنص الحديثين ليس فيهما دلالة لقتل المستأمن!!
فالفرق بين إخراج المشركين بالإكراه من جزيرة العرب، وبين تحريم قتل المستأمنين أو المعاهدين... هو إذن ولي الأمر..
فهذان الحديثان .. فقه الدراية فيهما، يقرر نصهما على الذين يدخلون من دون إذن.. أي عنوة دون عهد ولا عقد!!، فيدخلونها ويسكنون فيها ويتاجرون ويمارسون شعائرهم!، ويقيمون هياكلهم ومعابدهم، هؤلاء هم الذين ينطبق عليهم نص الحديثين، ولكن الخوارج "الجدد!!" لا يفقهون الدين كأسلافهم!، وهذا ما دندن حوله كثير ممن تزعم الجهالات "الحزبية" ووافقوا على فقه ابن لادن، بأنه لا يدخلها مشرك مستأمن أو غير مستأمن..! هذا مذهب من لا يفقهون ويمرقون من النصوص كما يمرق السهم من الرميّة، فإذا كان المشرك المستأمن وردت في وعيد قتله أحاديث جميع نصوصها صريحة، منها ما رواه البخاري (في صحيحه: ج 3- ص: 1155) عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً"، قال ابن حجر (فتح الباري ج: 12، ص259) من قتل معاهداً، كماهو ظاهر الخبر، والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم.." ا.ه فلماذا لا يفرق بين هذين الحديثين، وبين هذا الحديث!!، وهل هناك تعارض بين النصوص..؟ أقول: إن أتباع النصوص المجملة قد ضلوا - قديماً وحديثاً - خصوصاً إذا وافقت عقولاً متخبطة، ونفوساً يرتع فيها الهوى والتعصب والتحزب، نسأل الله العافية والسلامة ..!!
فالحديثان .. وما يقرب منهما من ألفاظ.. استقرأهما أهل العلم علي غير ما علق في ذهن ابن لادن وجميع من معه من دعاة التكفير.. ونوابت التفجير.. الذين يعينونه على بغيه باسم العلم والإيمان والجهاد.. فهما لا يتعارضان على ظاهر النص، ولكنهما يختلطان في ذهن من هو مفتون، بل من ضل السبيل! وهذا التأويل منه الذي استباح به دماء المسلمين، وقتل المعاهدين، والمستأمنين، باطل.. ولا يدل إلا على جهله وضلاله؛ ولقد ظن وأمثاله.. أنها عثرات تصلح لجرح الولاة وسلماً لتأليب العامة عليهم، فهذه من سنن الخوارج والمعتزلة - قديماً - وسنن الإخوان المسلمين وأفراخهم - حديثاً..
قال ابن القيم - رحمه الله -: (أحكام أهل الذمة ج: 2، ص737) .. أحكام المستأمن والحربي مختلفة، لأن المستأمن يحرم "قتله وتضمن نفسه ويقطع بسرقة ماله"، والحربي بخلافه، ولأن اختلاف الدارين لا يوجب انقطاع العصمة..
وقال - أيضاً -: فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر، ويعقده كل مسلم، ولا يشترط على المستأمن شيء من الشروط، والذمة لا يعقدها إلا "الإمام أو نائبه!!" ولا يعقد إلا بشروط كثيرة تشرط على أهل الذمة من التزام الصغار ونحوه..." ا.ه
وقال - رحمه الله - (أحكام أهل الذمة ج:2، ص 873): .. الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد؛ وأهل العهد ثلاثة أصناف: - أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان!، وقد عقد الفقهاء لكل صنف باباً فقالوا باب الهدنة، باب الأمان، باب عقد الذمة، ولفظ الذمة والعهد يتناول هولاء كلهم في الأصل!! وكذلك لفظ الصلح فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد!، وقولهم هذا في ذمة فلان، أصله من هذا، أي: في عهده وعقده، أي: فألزمه بالعقد والميثاق، ثم صار يستعمل في كل ما يمكن أخذ الحق من جهته، سواء وجب بعقده أو بغير عقده، وهكذا لفظ الصلح عام!، وفي كل صلح هو يتناول صلح المسلمين، بعضهم مع بعض وصلحهم مع الكفار، ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة، عبارة عمن يودي الجزية وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله!!، بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام، كما تجري على أهل الذمة!!، ولكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة وأما المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أربعة أقسام: رسل وتجار ومستجيرون، حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن، فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم!!، وطالبو حاجة من زيارة أو غيرها، وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن، فإن دخل فيه فذاك وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به، ولم يعرض له قبل وصوله إليه فإذا وصل مأمنه عاد حربياً كما كان" ا.ه.
ففي تقريره - رحمه الله - عدة فوائد منها: ذكر حقوق أهل الذمة، وأهل الهدنة، والمستأمنين.. فجميعهم في طور العهد.. ومنها: تفريق الأحكام بينهم ووجوب الوفاء لهم ما أوفوا.. ومنها: جواز دخول التجار والرسل، والمستجير "اللاجئ السياسي"!، ومنها: أن الشرع يطبق على أهل الذمة إذا كانوا يقيمون في الدار.. التي يجري فيها حكم الله ورسوله!، ومنها: أنه لا تطبق أحكام الإسلام على أهل الهدنة إذا كانوا يقيمون في ديارهم.. ومنها: جواز اعطاء أهل العهد الرخصة لزيارة أو حاجة تفيد المسلمين! علماً أنه لا يوجد في عصرنا - هذا - إلا صنف المستأمن، كما ذهب إليه العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -..
فالمسلمون قد يحتاجون إلى غيرهم في الصناعة والتجارة ونحو ذلك، كالعلوم اللازمة لتقوية الشوكة، من الدفاع.. أو في شؤون الزراعة أو الاقتصاد.. فليس هناك حرج من دخول غير المسلمين في دار الإسلام من أجل هذه المقاصد.. بعقد وعهد..
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى ج: 28ص: 89): .. ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري، إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية، إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم، كأهل خيبر، وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه، والمقصود - هنا - أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين، فهذا على وجهين: أحدهما أن يحتاجوا إلى صناعتهم، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت، فهؤلاء يستحقون الأجرة، وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصنّاع، والثاني أن يحتاجوا إلى الصنعة والبيع فيحتاجون إلى من يشتري الحنطة ويطحنها وإلى من يخبزها ويبيعها خبزاً لحاجة الناس.."أ.ه
فهؤلاء ومن على شاكلتهم مستأمنون لا يجوز قتالهم، قال الإمام ابن باز - رحمه الله -: "... لا يجوز قتل الكافر المستأمن الذي أدخلته الدولة آمناً ولا قتل العصاة، ولا التعدي عليهم، بل يحالون للحكم الشرعي هذه مسائل يحكم فيها بالحكم الشرعي" ا.ه (مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري..).
قال ابن حجر (فتح الباري ج: 6ص: 271): قوله باب إخراج اليهود من جزيرة العرب.. ولفظه أخرجوا المشركين.. اقتصر على ذكر اليهود لأنهم يوحدون الله - تعالى - إلا القليل منهم، ومع ذلك أمر بإخراجهم، فيكون إخراج غيرهم من الكفار بطريق الأولى، قوله: وقال عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أقركم ما أقركم الله"... والظاهر أنهم بقايا من اليهود تأخروا بالمدينة بعد إجلاء بني قينقاع وقريظة والنضير والفراغ من أمرهم.. وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم. يهود خيبر على أن يعملوا في الأرض.. واستمروا إلى أن أجلاهم عمر، ويحتمل والله أعلم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فتح ما بقي من خيبر هم بإجلاء من بقي ممن صالح من اليهود، ثم سألوه أن يبقيهم ليعملوا في الأرض فأبقاهم، أو كان قد بقي بالمدنية من اليهود المذكورين طائفة استمروا فيها معتمدين على الرضا ببقائهم للعمل في أرض خيبر، ثم منعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من سكنى المدينة أصلاً والله أعلم.. وقوله أسلموا تسلموا من الجناس الحسن لسهولة لفظه وعدم تكلفه ... قال الطبري: فيه أن على الإمام إخراج كل من دان بغير دين الإسلام، من كل بلد غلب عليها المسلمون عنوة، إذا لم يكن بالمسلمين "ضرورة إليهم"!، كعمل الأرض ونحو ذلك، وعلى ذلك أقر عمر من أقر بالسواد والشام، وزعم أن ذلك لا يختص بجزيرة العرب بل يلتحق بها ما كان على حكمها" ا.ه.
وتعريف جزيرة العرب كما بيَّن أئمة العلم - رحمهم الله - ومنهم شيخ الإسلام وقال: (اقتضاء الصراط - ج: 1ص:166) جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم (البحر الأحمر) إلى بحر البصرة، ومن أقصى حجر باليمن إلى أوائل الشام، بحيث تدخل اليمن في دارهم ولا تدخل فيها الشام وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث وقبله!!" ا.ه
و - أيضاً - من أسباب الأمر النبوي بإخراج المشركين واليهود.. لأن اليهود نقضوا ما عاهدوا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هي سنتهم الأولى.. فكانوا قبل نقض العهد يظهرون شعائر دينهم وعباداتهم في جزيرة العرب، فقال: "لا يجتمع دينان.." وهذا بسطه يطول وهو موجود في كتب الفقه، ومطولات شروح السنّة.. فأوضحوا فيه سبب أمر النبي بذلك، أما عن سبب تحريضه لقتل "المستأمن" وهو كعب بن الأشرف والمرأة اليهودية.. وإهدار دمهما، لأنهما سبَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ من القصتين قتل ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكان مسلماً أو مستأمناً، وفي القصتين من الفوائد: أن إصدار حكم الهدر خاص لولي الأمر.. أكان لقتل المعاهد والذمي، والمستأمن.. إذا قام بالسب، فينقض العهد بنقض المعاهد بالسب! ليس لدينه وإنما لسبه!!!...
فتحرير أهل العلم - رحم الله الجميع - لحديثي: "أخرجوا المشركين.. واليهود" "ولا يجتمع دينان" تفصيله الاستيطان الدائم، وإذا دخلوا عنوة من غير إذن ولا عهد ولا عقد مع ولي الأمر كما تقدم.. هذا هو الفقه المستقيم لهذين الحديثين.
أما من كان له حاجة تفيد.. أو للمسلمين ضرورة منه في العمل والصناعة والتجارة فهذا يجوز إدخاله، بعهد يطول أو يقصر حسب إذن ولي الأمر أو من أذن لغيره من المسلمين بالتعاقد مع غير المسلمين كالتجار والصناعة والزراع ونحوهم... فلله الحمد والمنّة الذي فرق بين طريق السنّة والبدعة، بحسن الاتباع في التنزيل والتأويل على وجه التفصيل.. فالإذن.. هو الفيصل في إخراج المشرك والمعاهد والمستأمن..
المفضلات