اليتيمان *
أحس (ماجد) أنه لم يفهم شيئا مما يقرأ، وأن عينيه تبصران الحروف وتريان الكلم ولكن عقله لا يدرك معناها،إنه لا يفكر في الدرس، إنه يفكر في هذه المجرمة وما جرَّت عليه من نكد، وكيف نغَّصت حياته وحياة أخته المسكينة وجعلتها جحيما متسعراً، ونظر في (المفكرة) فإذا بينه وبين الامتحان أسبوع واحد، ولابد له من القراءة والاستعداد، فكيف يقرأ وكيف يستعد؟وأنَّى له الهدوء والاستقرار في هذا البيت وهذه المرأة تطارده وتؤذيه ولا تدعه يستريح لحظة، وإذا هي كفت عنه انصرفت إلى أخته تصب عليها ويلاتها؟… هل يرضى لنفسه أن يرسب في أول سنة من سنيّ الثانوية وقد كان (في الابتدائي) المجلّي دائما بين رفاقه، والأول في صفه؟
وإنه لفي تفكيره؛ وإذا به يسمع صوت العاصفة… وإن العاصفة لتمر بالحقل مرة في الشهر فتكسر الأغصان، وتقصف الفروع، ثم تجيء الأمطار فتروي الأرض ثم تطلع الشمس، فتنمي الغصن الذي انكسر وتنبت معه غصنا جديدا، وعاصفة الدار تهب كل ساعة، فتكسر قلبه وقلب أخته الطفلة ذات السنوات الست، ثم لا تجبر هذا الكسر أبدا… فكأن عاصفة الحقل أرحم وأرق قلباً وأكثر (إنسانية) من هذه المرأة التي يرونها جميلة حلوة تسبي القلوب… وما هي إلا الحيَّة في لينها ونقشها، وفي سمها ومكرها.
لقد سمع سبّها وشتمها وصوت يدها، شلَّت يدها، وهي تقع على يد الطفلة البريئة، فلم يستطع القعود، ولم يكن يقدرأن يقوم لحمايتها خوفًا من أبيه، من هذا الرجل الذي حالف امرأته الجديدة وعاونها على حرب هذه المسكينة وتجريعها غصص الحياة قبل أن تدري ما الحياة… فوقف ينظر من (الشبّاك) فرأى أخته مستندة إلى الجدار تبكي منكسرة حزينة، وكانت مصفرة الوجه بالية الثوب، وإلى جانبها أختها الصغرى، طافحة الوجه صحة، بارقة العينين ظفرا وتغلّبا،مزهوّة بثيابها الغالية… فشعر بقلبه يثب إلى عينيه ويسيل دموعا، ما ذنب هذه الطفلة حتى تسام هذا العذاب؟ أما كانت فرحة أبيها وزينة حياته؟ أما كانت أعز إنسان عليه؟فمالها الآن صارت ذليلة بغيضة؛ لا تسمع في هذا البيت إلا السب والانتهار، أماالتدليل فلأختها، التي تصغر عنها سنتين، والطرف لها، كأنما هي البنت المفردة، على حين قد صارت هي خادمة في بيت أبيها، بل هي شرّ من خادمة، فالخادم قد تلقى أناسًا لهم قلوب، وفي قلوبهم دين فيعاملونها كأولادهم، وأبوها هي لم يبقى في صدره قلب ليكون فيقلبه شرف يدفعه أن يعامل ابنته، ابنة صلبه، معاملة الخادم المدللة، لقد كتب الله على هذه الطفلة أن تكون يتيمة الأبوين، إذ ماتت أمها فلم يبقى لها أم، ومات ضمير أبيها فلم يبقى لها أب!
وسمع صوت خالته (امرأة الأب تدعى في الشام خالة) تناديها: (تعالي ولك يا خنزيرة –ولك كلمة شامية محرفة عن كلمة ويلك تردد دائمًا-)!
وكان هذا هو اسمها عندها، (الخنزيرة) لم تكن تناديها إلا به، فإذا جاء أبوها فهي البنت، تعالي يا بنت، روحييا بنت! أما أختها فهي الحبيبة، فين أنت يا حبيبتي؟ تعالي يا عيني!
وعاد الصوت يزمجر في الدار؛ ألا تسمعين أختك تبكي؟ انظري الذي تريده فهاتيه لها! ألا تجاوبين؟ هل أنت خرساء؟ قولي: ماذا تريد؟
فأجابت المسكينة بصوت خائف؛ إنها تريد الشكولاطه…
ـ ولماذا بقيتِ واقفة مثل الدبّة! اذهبي فأعطيها ما تريد!
فوقفت المسكينة، ولم تدر كيف تبين لها أن القطعة الباقية هي لها. لقد اشترى أبوها البارحة كفا من الشكولاطة،أعطاه لابنته الصغيرة فأكلته وأختها تنظر إليها، فتضايقت من نظراتها فرمت إليها بقطعة منه، كما يرمي الإنسان باللقمة للهرّة التي تحدق فيه وهو يأكل، وأخذت المسكينة القطعة فرحة، ولم تجرؤ أن تأكلها على اشتهائها إياها، فخبأتها، وجعلت تذهب إليها كل ساعة فتراها وتطمئن عليها، وغلبتها شهوتها مرة فقضمت منها قضمة بطرفأسنانها، فرأتها أختها المدللة فبكت طالبة الشكولاطة…
ـ ولِكْ يا ملعونة فين الشكولاطة؟
فسكتت… ولكن الصغرى قالت: هناك يا ماما عندها، أخذتها الملعونة مني!
واستاقت المرأة ابنتهاوابنة زوجها، كما يساق المتهم إلى التحقيق، فلما ضبطت (متلبسة بالجرم المشهود) ورأت خالتها الشكولاطة معها حل البلاء الأعظم!
ـ يا سارقة يا ملعونة،هكذا علمتك أمك… تسرقين ما ليس لك؟
وكان ماجد يحتمل كل شيء،إلا الإساءة إلى ذكرى أمه، فلما سمعها تذكرها، لم يتمالك نفسه أن صاحبها:
ـ أنا لا أسمح لك أن تتكلمي عن أمي.
فتشمرت له واستعدت… وكانت تتعمد إذلاله وإيذاءه دائما فكان يحتمل صامتًا لا يبدو عليه أنه يحفلها أو يأبه لها،فكان ذلك يغيظها منه، وتتمنى أن تجد سبيلاً إلى شفاء غيظها منه وهاهي ذي قد وجدتها…
ـ لا تسمح لي؟ أرجوك ياسعادة البك اسمح لي أن في عرضك… آه! ألا يكفي أني أتعب وأنصب لأقدم لك طعامك وأقوم على خدمتك، وأنت لا تنفع لشيء إلا الكتابة في هذا الدفتر الأسود. لقد ضاع تعبي معك أيها اللئيم، ولكن ليس بعجيب أنت ابن أمك…
ـ قلت لك كفّي عن ذكر أمي،وإلا أسكتُّك.
واقترب منها، فصرخت الخبيثة و ولولت وأسمعت الجيران…
تريد أن تضربني؟ آه ياخاين، يا منكر الجميل، وْلي… يا ناس يا عالم، الحقوني يا اخواتي…
وجمعت الجيران، وتسلل ماجد إلى غرفته أي إلى الزاوية التي سموها غرفة، وخصوه بها لتتخلص سيدة الدار من رؤيته دائما في وجهها!
* * * * * * * *
ودخل الأب المساء وكان عابسًا على عادته باسرًا لا يبتسم في وجود أولاده، لئلا يجترئوا عليه فتسوء تربيتهم وتفسد أخلاقهم ولم يكن كذلك قبل ولكنه استنَّ لنفسه هذه السنة من يوم حضرت إلى الدار هذه الأفعى وصبَّت سمَّها في جسمه، ووضعت في ذهنه أن ماجدًا وأخته ولدان مدلّلان فاسدان لا يصلحهما إلا الشدة والقسوة…
وكانت خبيثة إذا دنا موعد رواحه إلى الدار، تخلع ثيابها وتلبس ثيابًا جديدة، كما تخلع عنها ذلك الوجه الشيطاني وتلبس وجهًا فيه سمات الطهر والطفولة، صنعه لها مكرها وخبثها، ولا تنسى أن تنظف البنتين وتلبسهما ثيابا متشابهة كيلا يحس الأب بأنها تفضل ابنتها على ابنته..
دخل فاستقبلته استقبال المُحبة الجميلة، والمشوقة المخلصة، ولكنها وضعت في وجهها لونًا من الألم البريء تبدو معها كأنها المظلومة المسكينة، ولحقته إلى المخدع تساعده على إبدال حلّته هناك روت له قصة مكذوبة مشوهة فملأت صدره غضبًا وحنقًا على أولاده، فخرج وهو لا يبصر ما أمامه،ودعا بالبنت فجاءت خائفة تمشي مشية المسوق إلى الموت، ووقفت أمامه كأنها الحَمَل المهزول بين يدي النمر. فقعد على كرسي عال، كأنه قوس المحكمة وأوقفها أمامه،كالمتهم الذي قامت الأدلة على إجرامه، وأفهمها قبح السرقة، وعنَّفها وزجرها… وهوينظر إلى ولده ماجد شزرا، وكانت نظراته متوعده منذرة بالشرِّ، ولم يستطع ماجدالسكوت وهو يسمع اتهام أخته بالسرقة وهي بريئة منها، فأقبل على أبيه يريد أن يشرح له الأمر، فتعجل بذلك الشّر على نفسه.
المفضلات