تفعيل الذات.. بل تفعيل الكون!(1)
كمال المصري - 30/01/2003
إذا كنتُ قد تحدثتُ عن بناء الذات، أسبابه وأقسامه ووسائل تطبيقه، في المقال السابق: ومضات حول بناء الذات
وأشرت في آخره إلى أن هذا البناء يجب أن يستتبعه التفعيل، فإنما الأفعال مغاريف القلوب، والسلوك مصداق القول، ولا خير في علمٍ لا يتبعه عمل، فإذا كان بناء الذات معناه: "من أنت؟"، فتفعيل الذات يعني: "ماذا فعلت؟".
تبدأ عملية تفعيل الذات بجوانبها المختلفة عندما ينبع في عقل المسلم وقلبه نبع الوعي وإرادة الفعل، فيغدو كالنهر المتدفق الجاري المتجدد الذي يضفي خيره على النفس والمجتمع والعالَمين.
أما عملية التفعيل في ذاتها فلها جوانب أربعة:
الجانب الأول: تفعيل الذات مع الله تعالى.
الجانب الثاني: تفعيل الذات مع النفس.
الجانب الثالث: تفعيل الذات مع الأمة.
الجانب الرابع: تفعيل الذات مع الآخر.
نتناول في هذا المقال الجانبين الأولين منهما، على أمل أن نستكمل الجانبين الآخرين في مقال لاحق بإذن الله تعالى:
الجانب الأول: تفعيل الذات مع الله تعالى:
أما وإن المسلم عبر بنائه لذاته قد عرف من هو، فإنه في تفعيلها عليه أن يعرف ماذا فعل، وهذا التساؤل يطير بجناحين: جناح "ماذا فعلت مع ربك؟"، وجناح "ماذا فعلت مع نفسك؟".
والحديث هنا عن فعل العبد مع ربه تعالى، فإذا أحسن المسلم فعله نحو ربه سبحانه، فسيحسن فعله مع نفسه، وإذا أحسن فعله وفعَّل نفسه، غدا فعله في المجتمع والآخرين نتاجًا حاصلاً لا محالة، لذلك كان تفعيل الذات مع النفس مفتاح الدنيا والعالم والكون كله.
ومفتاح تفعيل الذات مع النفس هو في فعل النفس مع ربها جل شأنه؛ فعلاقة المرء بربِّه أمرٌ ينبغي أن يضعه المسلم نصب عينيه، وأن يتذكَّر ليل نهار كيف ومع مَن يتعامل، وأن تبقى آيات رحمة الله تعالى به وفضله عليه أمام ناظريه، يتذكَّر: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف:156)، و{مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} (فاطر:2)، وإذا مسَّه سوءٌ قرأ: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} (الزمر:36).
وعندما يرى مظاهر رحمة ربِّه سبحانه إذا بلسانه يذكر: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات:21)، {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الروم:50).
وإذا يئس إذا بذهنه يذكِّره بسعة رحمته جل شأنه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53)، ثم يكتشف قول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186)، فيتقرب أكثر وأكثر، ولا يجد أمامه مفرًّا من أن يعمل ويعمل ويعمل، كي يقترب من مولاه وخالقه أكثر وأكثر وأكثر.
وعندما يحب المسلم إلهه وربه جلَّ وعلا حقَّ الحبِّ، تتحرك كل صغيرةٍ وكبيرةٍ فيه إلى طاعته وابتغاء رضوانه، وإذا بهذه الطاعة تتحول بذلاً وفعلاً للخير يلقي بثمره على كل من يدنو من فيء هذا المسلم وظله.
أما كيف نحب ربنا تعالى وتزداد صلتنا به فالأمر ليس سهلاً وليس صعبًا في الوقت ذاته؛ فالقرب من الله تعالى له عناءٌ لذيذٌ لا يستشعره إلا من سعى إليه، ولا يهنأ به إلا من وصله وناله.
وبرامج الحب والقرب والوصال متعددةٌ كثيرةٌ بفضل الله تعالى، منها:
1- الالتزام الكامل بالعبادات:
فلا صلاة تفوت، ولا الجماعة تُترَك، ولا الفجر تتغافل عنه العيون، ويؤدى الصيام بحقه كاملاً غير منقوص، وتؤتى الزكاة بلا شح أو بخل أو حتى تردد، وللحج مقامٌ عظيمٌ لو نعلم قيمته لسعينا إليه سعيًا، حين نعلم أنه لقاء الرحمن الرحيم، وأننا أضيافه، ومن أكرم من الله تعالى مع أضيافه وأجود؟!
2- الطاعات.. الطاعات:
- قيام الليل مدرسة المؤمنين ومناجاة رب العالمين.
- صيام الإثنين والخميس والأيام المخصوصة باب آخر لمناجاة رب العالمين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به" متفق عليه.
- القرآن الكريم: كلام الله تعالى وحديثه، ونهج القلوب والعقول.
- الأذكار والأوراد: رطابة اللسان، وزكاة القلب من شوائبه، واستكمال ما نقص من العبادة، والتواصل الدائم بالله تعالى في كل وقتٍ وأوان.
ليجعل المسلم لنفسه من كل ذلك أورادًا محددةً يلتزم بها، وهناك غيرها كثير، وليؤكد دائمًا على إخلاص النية، وحسن الأداء وإتقانه.
3- إيمان المعاملة وفعل الخير:
فالمسلم إنسانٌ ممتدٌ بنفعه إلى العالمين، وحسن المعاملة جزءٌ لا يتجزأ من دينه، والمسلم مأمورٌ بإحسان التعامل مع الناس، والتبسم في وجوههم، واللين، والرفق، والأناة، والحلم، وضبط اللسان، وحفظ الأعراض، وعدم التجسس والغيبة، وغير ذلك من المأمورات والمنهيات التعاملية التي لا يمكن إلغاؤها بحال.
كما أن المسلم مأمور بإعانة المحتاج، وإغاثة الملهوف، وتفريج كرب المكروب، وبذل الخير، كل الخير، بأي شكلٍ، وبأي صفةٍ، وفي أي وقت.
يفعل المسلم كل ذلك من منطلق الإيمان، ومن باب التقرُّب إلى الله تعالى وتوطيد الصلة به سبحانه، لا من أي باب آخر، ولو فعل المسلم ذلك من هذا الباب لزاد رصيده الإيماني تمامًا كما تفعل العبادة والطاعة به، فهما صنوان: إيمان العبادة والطاعة، وإيمان المعاملة، لا فضل لأحدهما عن الآخر، لو كنا نعلم.
الجانب الثاني: تفعيل الذات مع النفس:
يلحق جناح "ماذا فعلت مع نفسك؟" بأخيه "ماذا فعلت مع ربك؟"، ليسأل المسلم: ما ملَكاتك وقدراتك التي خلقها الله تعالى فيك، وكيف عليك أن تؤدِّي حقَّها؟
فتكون الإجابة الحتمية اللازمة: بصيانة ما وهبني الله تعالى، وتنمية ما أفاض عليَّ من قدراتٍ وملكاتٍ خاصة، ثم أستخدم كل ذلك لدعوة العالَمين وخدمة هذا الدين كزكاةٍ لكل ذلك الفضل وتلك النعم.
أصون عقلي ونفسي وجسمي وجوارحي من كل سوء، فلا مجال للمسكرات بأنواعها، ولا لاشتغال الذهن فيما يضر أو لا يفيد.
ولا اقتراب من مواطن الشبهات، ولا مكان لقلة العزم وضعف الإرادة وفقدان الثقة، ولا إهمال لجزءٍ من جسمي حتى يعلوه الصدأ وتتملكه العلل.
ولا فرصة لخطأ الجوارح وتجاوزها؛ فالبصر يُغَضُّ، والأذن تُصَمُّ عن كل ما هو محرم أو حتى لا فائدة منه، واللسان -مصدر الهمِّ والهلاك- أخرس أبكم عن كل باطل، صادقٌ لاذعٌ في قول الحق، واليدان والرجلان تصدق ذلك وتعين عليه وتثبته، تسير إلى الخير، وتسعى إليه، دون كللٍ أو تعب، وإجادة العمل الذي يقوم به وإتقانه ركن أساسيٌّ كذلك.
والحق أن الإجادة والإتقان في كل شيءٍ هو رمز المسلم وعلامة وجوده.. من إتقان العبادة والطاعة والمعاملة، إلى إتقان المهام والواجبات في العمل وفي البيت وفي المجتمع وفي الأمة، وفي النفس وفي الأولاد وفي الأهل وفي البشر أجمعين.
ولا أتوقف عند هذا، بل أنمي ما وهبني الله تعالى من ملَكاتٍ خاصة مخلِصًا في ذلك لله رب العالمين، قاصدًا بها نفع المسلمين وعونهم، فمَن يهوى العلم والبحث فليجتهد وليبلغ منازل العلماء الأفذاذ والمخترعين والمكتشفين، ومَن مجاله الإلكترونيات أو الكمبيوتر أو الجيولوجيا أو القانون أو الشريعة أو.. أو.. فليجتهد ولا يدخر وسعًا في ذلك، ومَن مهاراته يدوية كالنجارة والحدادة والكهرباء فمجاله كذلك مهمٌّ وإتقانه أساسيّ، ومَن يميل للرياضة فليحسن بناء نفسه وإعدادها وليتميز فيما يجيد.
وما التاجر عن ذلك ببعيد، فإن كان كما وصفه رسولنا صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" رواه البخاري، إن كان كذلك فقد حقق دوره المطلوب منه، "وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِق له" كما يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه.
وما دام الأمر كذلك، فكل واحدٍ في مجاله هو أقدر الناس على إتقان مهمته، وتيسير الله تعالى وعونه معه، فلا يقصِّر أو يتكاسل.
يفعل ذلك كل مسلمٍ في مجاله وتخصصه والحقل الذي هو فيه، بالفكر والجسم، لا يستصغر فيها أحدٌ نفسه ولا جهده ولا قدرته، فكلٌّ له دورٌ لا يقوم به إلا هو، وبدونه لن يسير أحد، ولا عبرة هنا لحجم الأعمال ومسمياتها، ولكن العبرة في إتقانها وإخلاصها كي تحقق دورها في منظومة الاستخلاف في الأرض التي أمرنا الله تعالى بها، وأمة الخيرية التي جاءت لهداية العالَمين.
ولا مجال من قريبٍ أو بعيدٍ للـ"أنا"؛ لأن الإنسان لا يكون شيئًا ولا يرتقي إلا بقدر تفاعله مع مصلحة الأمة، بحيث ينسجم معها، ويعي بأن مصلحته تتحقق عبرها، وعندما يسعى المسلم ويتحرك في إطار مصلحة الأمة فإنه ينسجم ويتفاعل ويتطور أكثر، ونقيض ذلك يحدث حين ينغلق على نفسه ولا يرى إلا ذاته، فالانغلاق على المصالح الشخصية وتفويت العامة منها يجمد الفرد ويعزله عن المجتمع، ويُفقِد المجتمع كيانه، فيفقد غاية وجوده، فيهلك ويهلكون جميعا.
تغدو هذه الحقيقة غايةً في الوضوح حين نقرأ قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر9-10).
وهذه رؤى تعبر عن القمة التي يصل فيها الفرد في نكران ذاته، ثم كيف يفعلها لصالح بناء ذات الأمة.
المفضلات