المجتمع القبلي في اليمن القديم ..؟؟
--------------------------------------------------------------------------------
المجتمع القبلي
إن الصحراء التي تغطي الجزء الأكبر من سطح شبه الجزيرة العربية تعوق تحركات الجيوش والتجار، وتحفظ عبر القرون – دون تغيير – صفات سكانها وأحوال معيشتهم ، وخارج الجماعات المستقرة التي لم تكن سوى أقلية صغيرة كانت القبائل البدوية تعبر الصحراء في هجراتها الموسمية بحثا عن الكلإ والماء [1] .
وليس من اليسير رسم صورة للحياة السياسية والاجتماعية لشعوب لم تترك لنا وثائق سوى نقوش نذرية وتذكارية . لكن هذه الأخيرة كثيرة إلى حد يكفي لاستخراج نتائج معينة في هذا الصدد تتسم بالحيطة والحذر [2] . وقد عرف سكان شبه الجزيرة العربية باسم « العرب » الذي ظهر لأول مرة في القرن التاسع قبل الميلاد بإحدى الوثائق الآشورية للملك « شلما نصر الثالث » ملك آشور ( 853 قم ) [3].
وبغض النظر عن الألفاظ العديدة والمختلفة لكلمة « العرب » والتي وردت في الوثائق الآشورية والبابلية واليونانية واللاتنية فإن المؤرخين العرب يتفقون على تقسيم « العرب » إلى ثلاث طبقات :
- العرب البائدة : ويقصد بها الشعوب العربية القديمة التي كانت تسكن الجزيرة .
- العرب العاربة : وهم عرب الجنوب ، وينسبون إلى قحطان بن عابر بن شالخ بن ارفكشاد بن سام بن نوح ، وكان موطنهم اليمن [4] .
- العرب المستعربة : وهم عرب الشمال ، ويقال لهم : العدنانيون ، أو النزاريون ، أو المعدينون ، وينسبون إلى عدنان بن أدد من ولد ثابت بن الهميسع بن تيمن بن نبت بن قيدر بن إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام كما يذكر المسعودي في كتابه ( مروج الذهب ) .
وقد كانت القبيلة هي الوحدة السياسية عند العرب في العصر الجاهلي ، فأفراد القبيلة ينتمون أو يعتقدون انتماءهم إلى أصل واحد مشترك تجمعهم وحدة الجماعة وتربطهم رابطة العصبية للأهل والعشيرة ، والتي تعبر عن شعورهم بالتماسك والتضامن والاندماج بين من تربطهم رابطة الدم ، فهي بذلك مصدر للقوة السياسية والدفاعية التي تربط بين أفراد القبيلة فتعمل بذلك على بقاء المجتمع وحفظ كيانه ، وهي تعادل الشعور بالقومية في العصر الحاضر ، ولكن رابطة الدم فيها أقوى وأوضح ، فالفرد يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقبيلته وينصرها ظالمة أو مظلومة [5] .
غير أن مفهوم القبيلة في اليمن القديم لا ينبغي بالضرورة أن يقوم على صلة القرابة بالدم والجد الواحد المشترك كما استنتج بعض الباحثين من خلال تحليلهم لبعض النقوش ، حيث يذكر « رودو كناكيس » أن : لفظة « قبيلة » كانت تستخدم للتعبير عن نظام خاص يقوم على أساس الروابط الاقتصادية والسياسية وروابط العمل ، لأن الحالة الاقتصادية والسياسية هي التي تفرض وظيفة الجماعة وهذه تسمى قبيلة [6] . أما « جواد علي » فيشير إلى أن القبيلة في اليمن قد تتكون من قبائل وعشائر مختلفة ، ومن جماعات عمل تمثل الحرف انضمت إلى قبيلة كبيرة أو إلى مالك للعمل في أرضه أو لأداء خدمات له ، ونتيجة لطول بقائها اندمجت في القبيلة الكبيرة أو في قبيلة المالك الكبير وبالتالي أصبحت جزءاً منه أو من أتباعه ، و قد ينسبوا إليه بعد أجيال ويصبح جدهم المشترك [7] . إلا أننا نلاحظ أن « جواد علي » لم يزح عن ما قاله « رودو كناكيس » في قيام مفهوم القبيلة عند اليمنيين القدماء على الجانب الاقتصادي .
غير أنه على المدى البعيد ومع استقرار القبائل وانقسامها في مناطق وأقاليم محدودة ظهر العامل الإقليمي كمكون آخر لمفهوم القبيلة اليمنية إلى جانب عامل النسب أو الجد المشترك ، هذا في المناطق التي استمرت فيها قوة النظام القبلي ، أما في المناطق التي ضعفت أو اختفت منها قوة هذا النظام فقد أصبح عامل الإقليم ( الأرض والوحدة الإدارية ) هو المكون الأساسي أو الوحدوي لتماسك أفرادها ، وقد عرف المجتمع اليمني القديم تقسيمين اجتماعيين رئيسيين :
1- تقسيم أفقي : وهو انقسام السكان إلى عشائر وقبائل على أساس الدم والقرابة سواء كانت حقيقة أم وهمية .
2- تقسيم رأسي : وهو انقسام البنية الاجتماعية إلى شرائح وفئات وجماعات اجتماعية على أسس متنوعة ( اقتصادية ، مهنية ، ثقافية ، عرقية ، اجتماعية .. إلخ ) .
وهناك تقسيمات أخرى لا تقل أهمية وهي قبائل بدوية ( بدو ، رعاة ) مقابل قبائل مزارعة ( مزارعون ) ، وسكان مدن مقابل سكان الريف ، وكذلك أحرار مقابل عبيد [8] .
وقد انقسم المجتمع إلى قبائل ( أو اتحادات قبلية ) ومنها إلى بطون وأفخاذ حتى تصل إلى أدنى تقسيم داخلي وهو العائلة الممتدة أو البيت أو القرية ، ومن مجموع هذا التقسيم تكون المجتمع وبالتالي الدولة . وتنتشر القبائل في جميع جهات اليمن وتلعب العصبيات دوراً كبيراً في حياة البلاد ، ومن الصعب حصر كل القبائل . كما أن هذه القبائل ، بالذات يتصل تاريخ بعضها بمناطق معينة ثم يأتي غيرهم فيأخذها منهم ، ويبقى منهم من يبقى ويرحل من يرحل إلى مكان آخر أو ربما إلى خارج حدود اليمن .
وعلى كل حال فإن قبيلتي « حاشد » و« بكيل » هما أهم قبيلتين يعتمد عليهما أئمة الزيدية ويسمونها الجناحين ، كما توجد قبائل أخرى قوية في تهامة . وقد حاول بعض المعنين بتاريخ اليمن حصر القبائل الهامة فكان عدد أهم قبائلها التي تقيم في جبال الهضبة 141 قبيلة وعدد قبائل تهامة اليمن الهامة 27 قبيلة ، وتنقسم كل قبيلة من تلك القبائل الكبيرة إلى عدة قبائل صغيرة نذكر منها : قبيلة همدان ـ قبيلة نجران ـ قبيلة يام ـ قبيلة وادعة ـ عيال سريخ ـ آل عامر ـ قبيلة خولان الشام ـ قبيلة ربيع ـ قبيلة سفيان - قبيلة بلاد البيضا – قبيلة الخمسين ـ قبيلة بلاد ذمار ـ قبيلة رذاع ـ قبيلة الغلقمي ـ قبيلة الصالحي ـ قبيلة بلاد العدين ـ قبيلة الأغابرة .
ومن قبائل تهامة اليمن نذكر : قبيلة المسارحة ـ قبيلة العبادلة ـ قبيلة الحارث ـ قبيلة بن محمد ـ قبيلة بني مروان .. إلخ [9] . ولكل قبيلة تقاليدها وعاداتها ولهذا فمن الصعب أن يتحدث أي إنسان عن تلك القبائل بوجه عام ، ولا يعني الانتماء إلى قبيلة واحدة أن أفرادها متساوون في كل شيء ، وذلك أن القبيلة عبارة عن صور مصغرة لمجتمع مستقل نسبياً وعليه فالتفاوت بينهم وارد من حيث المكان الإجتماعي والوظائف وفي المهن والحرف [10] . كما أن هناك تفاوتاً بين القبائل من حيث الوزن السياسي والاجتماعي ، فليست كل القبائل سواء . أما الذي يحكم القبيلة فمشايخها وأعيانها وعقلاؤها . ومن الملفت للنظر أن القبيلة لم تعرف الحكم الاستبدادي أو الفردي فقد كشفت بعد النقوش ( قتبانية وسبئية ) عن وجود مجلس قبلي يسمى ( عهرو ) و ( عهر ) * يناقش فيه وجهاء وأعيان القبيلة ما يتعلق بقبيلتهم من أمور هامة مثل الحروب أو فرض الضرائب أو زيادتها مثلاً [11] .
وفيما يخص البنية الاجتماعية للمجتمع اليمني القديم فهناك ما يشبه الاتفاق بين العديد من الباحثين في شؤون المجتمع اليمني القديم على وجود عدد من الطبقات ، أو الطوائف للحكام ، ورجال الدين ، والجند المسلح ، والمزارعين ، والصناع ، والعبيد ، ولكل منها وظيفة محدودة ؛ ولها حدود لاتتعداها ، ولا ينتقل أحد منها إلى سواها [12] .
ومن الملاحظ أن هذا النظام شبيه بنظام الطوائف المغلقة وأنه يقوم على أساس المهنة والوظيفة في المقام الأول . ويبدو أن أول من أشار إلى هذا التقسيم الحاد والصارم هو المؤرخ الروماني « سترابو » الذي عاصر الحملة الرومانية الفاشلة على اليمن عام 24 قبل الميلاد [13] ، وعنه كما يبدو نقل معظم المؤرخين والكتاب .
وقد قسم الدكتور « جواد علي » المجتمع العربي اليمني في أواخر عهد سبأ وذي ريدان ( حمير ) إلى ثلاثة طبقات أو أقسام ، مع أنه لم يدعم رأيه بنقوش محددة ، وهذه الأقسام هي :
الأول : ويضم الملوك ورجال البلاط ورجال الدين وقادة الجيش وكبار الحكام وسادات القبائل وهم المتمتعون بالامتيازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
الثاني : السواد ، وهم غالبية الناس لا يملكون من الأرض إلا المسافات الصغيرة والبيوت.
الثالث : الأدنى منزلة في المجتمع ، ويتكون من الحرفين والصناع والعبيد ، وهم جماعات غير محببة بحكم ممارستها الحرف ومهن كانت محتقرة آنذاك . بل ونظر اليمنيون هذه النظرة نفسها إلى مزارعي الخضر كالبقول ويؤكد جواد علي أن هذه النظرة للحرفيين كانت عند شعوب العالم في تلك العصور ، لأن الحرف كانت من أعمال الطبقات الدنيا من سواد الناس والرقيق والموالي [14] 14 .إلا أن هذا التقسيم الثلاثي يمكن أن يقتصر على قسمين اثنين :
الأول : ويضم الجماعة الحاكمة ومن يرتبط بها كرجال الدين أو موظفي الدولة (عسكريين ومدنيين) وغير الرسميين كسادات المدن والقبائل ، فهؤلاء يسيرون الدولة ويتحكمون بالمجتمع ويعيشون على الفائض المستخرج من القطاع الزراعي ، كما أنهم يشاركون في النشاط الزراعي ثاني القطاعات أهمية في الاقتصاد آنذاك .
الثاني : يضم في الغالب القوى العاملة المنتجة وغالبيتهم من المزارعين بمختلف فئاتهم ، ثم الحرفيين ، ويضم إليهم أصحاب الخدمات والجماعات الهامشية [15] .
ونلاحظ مما تقدم أن التقسيم الاجتماعي القديم هش يقوم في أساسه على المقومات الاقتصادية والمهنية وبالتالي فيمكن لأي شخص أن يتحول من مجموعة أو فئة إلى فئة أخرى بتغيير نمط وأسلوب معيشة وممارسته الاقتصادية من أحسن إلى أسوأ أو العكس ، إلا أن ما يلفت الانتباه أن اليمنيين احتفظوا بهذا النظام والتقسيم الاجتماعي خلال قرون طويلة من الزمن * .
--------------------------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سبستينوموسكاتي ، الحضارات السامية القديمة ، ترجمة الدكتور : السيد يعقوب ببكر ، لوندن ، 1957 ، ص 188 .
[2] سبستينوموسكاتي ، المرجع نفسه ، ص 196 .
[3] د . جواد على ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، الجزء7 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الثانية 1980 ، ص ( 574 ـ 575 ).
[4] د . رشيد الجميلي ، تاريخ العرب في الجاهلية وعصر الدعوة الإسلامية ، الطبعة الثانية 1976 ، مطبعة الرصافي ، بغداد ، ص 38 .
[5] د. رشيد الجميلي ، المرجع نفسه ، ص 48.
[6] رودو كناكيس,الحياة العامة للدولة العربية الجنوبية ، ص (126-127) ، نقلا من كتاب : قائد الشرجبي ، القرية والدولة في المجتمع اليمني ، دار الضمامن للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى ، 1990 .
[7] د.جواد علي,المفصل,المرجع السابق,41.
[8] قائد الشرجبي,القرية والدولة في المجتمع اليمني,دار الضمان للطباعة والنشر والتوزيع,بيروت,لبنان,1990,23.
[9] أحمد فخري,اليمن مضيها وحاضرها,محضرات ألقاها على طلبة قسم الدراسات التاريخية والجغرافية,سنة 1957,ص ص(32-33).
[10] رودوكناكيس,الحياة العامة.المرجع السابق,30.
* للبحث عن لفظة (عهر) في المعجم السبئي اتضح أنها "إسم جمع" يعني (سادة) جاءت مرتبطة بدولة أو قبيلة "فيشان" أي "عهر فيشان" بمعنى:سادة قبيلة فيشان ، اشرجبي,المرجع السابق.
[11] قائدالشضرجبي,القرية والدولة,المرجع السابق,25.
[12] رودو كناكيس,الحياة العامة,المرجع السابق,34.
[13] د.جواد علي,المفصل,الرجع السابق,ص545.
[14] المرجع نفسه,ص ص(543-544).
[15] قائد الشرجبي,القرية والدولة.المرجع السابق,27.
* إستنتاجات خاصة .
تحيات/ماجد البلوي
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المفضلات