إنَّ المتأمّلَ في واقعِ الأمن الفكريِّ في الأمّة يُصاب بالذّهول وهو يرَى كثرةَ الأسباب والعوامِل التي تسعَى إلى تقويض بنيانِه وزعزَعة أركانِه والعملِ على إغراقِ سفينته وَسطَ أمواجٍ عاتية وسيولٍ جرّارة هادرة؛
مِن ألوان الغزوِ الفكريّ المركَّز والتحدّي الثقافيّ المعلَن. ولعل أخطرَ تلك الأسبابِ القصورُ في جوانبِ العقيدة وتطبيقِ الشريعة،
يقول الله عز وجل وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ)[1] ، وأيُّ بركةٍ أعظمُ مِن تحقيق الأمن؟! وكذلك التساهُل في مجالاتِ الدعوة والحسبة، وهما صِمام الأمانِ في تحقيق الأمنِ الفكريّ. ومن ذلك التزهيدُ في علماءِ الشريعة وتركُ الرجوعِ إليهم خاصّةً في النوازل والمستجدّات التي يتطلَّب النظر فيها إلى فهمٍ دقيق واستنباطٍ صحيح، وكذا الأخذُ والتلَّقي من أنصافِ المتعلِّمين والخائضين في أمورِ الشريعة والإفتاء تحليلاً وتحريمًا وهم ليسُوا من ذلك في وردٍ ولا صدر.
وثَمّةَ سببٌ مهِمّ في الخلَل الفكريّ، وهو القصورُ في جوانبِ التربية والتعليم، ووجودُ الخلَلِ في الأسرة ومناهج التعليم، وتضييق النطاقِ على العلومِ الشرعيّة ومزاحمَتها بغيرِها مع أنها الأصلُ الذي تنبني عليه سائرُ العلومِ المعاصرة. ولقد أدرك الخصومُ أنَّ قوّةَ الأمّة تكمُن في التزامِها بدينِها وأنّ ذلك لن يتحقَّق إلاَّ بإيلاءِ المناهجِ التعليميّة الشرعيّة الاهتمامَ والعناية، فعمِلوا على الحدِّ من تعليمِ الناشِئة هذا الدين بمحاسنِه وجماليّاتِه، ممّا كان عاملاً لسهولةِ التأثُّر بالأفكارِ المنحرفة والمناهِجِ الدخيلة التي ترمِي إلى تقويض دعائمِ الأمنِ الفكريّ.
ومما ينكأ الجراحَ في قضيّة الأمن الفكري ذلك الزّخَم الهائل من وسائلِ الغزوِ الفكريّ والثقافيّ الذي يرفع عقيرَتَه فئامٌ من ذوي الاستِلابِ الثّقافيّ وضحايا الغزوِ الفكريّ من بني جِلدةِ المسلمين ومَن يتكلَّمون بألسنتهم ممَّن يسلكُون مسالكَ متعدِّدة في الخضوعِ للغزوِ الثقافيّ، بل ومحاولةِ إخضاع المجتمَع المسلم المحافِظ لرغبتِها وجنوحِها المنحرِف بدعاوَى فجّة تحت سِتار حرّيّة الرأي وحرّيّة التفكير وغيرِها من الصِّيَغ المعسولَة والأسماء المنمَّقَة، فلم يتورَّع هؤلاء من النّيلِ من الذّات الإلهية والصّفات العليّة، تعالى الله عمّا يقولون علوًّا كبيرًا، والإساءةِ إلى شخصيّة المصطفى ولتعاليمِ الشريعة وآدابها.
ومنَ المؤسِفِ حقًّا أن جدارَ ثقافتنا الإسلامية على الرّغم من قوّتهِ ومتانته قد تعرَّض للتصدُّع مِنَ الضّرَبات المتتاليَة التي يصوِّبها إليه دعاةُ التغريبِ والعَولمة. فهل من حرّيّةِ الفكر الانقلابُ على المبادئ واعتناقُ كلِّ فكرٍ مستورَد حتى ولو كان إِلحاديًّا إباحيًّا لا يقيم للدّين ولا للفضائل والقِيَم وزنًا؟! فسبحان ربي العظيم! كأنّ الحرية لا تأتي إلاَّ عندَ مهاجمةِ المعتقَداتِ الإسلامية.
إنّه إذا انتشَرَت مثلُ هذه القناعاتِ المريضة فإنّما تدلّ على هزيمةٍ نفسيّة لدى أصحابها، ومتى جاسَت خلالَ صفوفِ ناشئةِ الأمّة وأجيالها فماذا عسَى أن يبقَى للمؤسّسات التربويّة في المجتمع؟! وإلى أين يتّجه مصير التربيّة الإسلامية والوطنيّة التي تحفَظ وَحدةَ الفكر والثقافةِ ووَحدة النسيجِ الاجتماعيّ المتميِّز كعامِلٍ من أهمّ عوامل الأمن الفكري؟!
لقد أوجَدَ الغزوُ الثقافيّ مناخًا يتَّسِم بالصراع الفكريّ الذي يجرّ إلى نتائجَ خطيرةٍ وعواقبَ وخيمة على مقوِّمات الأمّة وحضارتها، وكان من نتيجةِ ذلك أن تُسمَع أصوات تتَعالى عبرَ منابرَ إعلاميّةٍ متعدّدة تدعو وبكلِّ بجاحةٍ إلى التخلّي عن كثيرٍ من الأمور الشرعية والثوابِتِ المرعيّة والمعلومَةِ من دين الإسلامِ بالضّرورة، خاصّةً في قضايا المرأة.
لقد شَنّوا الحربَ على الحجاب، وطالبوا بإلغاءِ قوامةِ الرّجل وولايتِه عليها، ودعَوا إلى الاختلاط في التعليمِ وميادينِ العمل بدعوَى الحرّيّة والمساواة، ولقد أسهَم الإعلامُ المفتوح لا سيّما الفضائيّ منه في إذكاءِ نارِ الخلَل الفكريّ وتفنَّن في جذبِ الأنظار والتأثيرِ على الرأي العام، ممّا جعل أمنَ الأمّة الفكريّ عُرضةً للاهتِزاز ومهبِّ الأخطار.
لقد أوحَت هذه الفضائياتُ وشبكاتُ المعلوماتِ للناظرين وكأنّ هذه
الدنيا أصبَحت هدفًا للفوضَى الفكريّة والأخلاقية ومسرحًا للضّياع في مَباءات الإغراءات والإباحيّة، ممّا لا يحكمه دينٌ ولا قِيَم ولا يضبِطه خُلُق ولا مُثُل، وقَنوات أخرى لا تفتَأ في إذكاءِ نار الفتنة بين الرعيّة والرّعاة بدعوَى الإصلاح زعمَوا، وأُخرى بدعوَى الإثارة والبلبَلة تدعوا الموتورين إلى أن تكونَ مِنبرًا لهم حيث لا منبرَ لهم، وهكذا منتدياتُ الفضائح والمثالب والطّعون والمعائب، أوَليس ذلك كلُّه مدعاةُ إلى أن تولي الأمّة الأمنَ الفكريَّ جُلَّ اهتمامها، وذلك يكون أولاً وقبلَ كلِّ شيءٍ بتقويَةِ وازِعِ الدّين في النفوس وإذكاءِ جَذوةِ الإيمان وتقوِيَته، (الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ )[2]، وإعزازِ جانب الدّين والكفِّ عن الوقيعةِ في المتديّنين والصالحين، وإعزازِ جانبِ الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر لِما يمثِّلُه من طوقِ أمانٍ في الحِفاظ على الأمن الفكريّ، ومن يتعرَّف على الجهود المباركة التي تُبذَل في المؤسّسات الدعَويّة والأروقةِ الاحتسابيّة يجدِ الدورَ الكبير الذي يبذُله دعاةٌ صادقون ومحتسِبون مبارَكون في الحفاظ على الأمنِ الفكريّ للأمة، (الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصلاةَ وَاتَوُاْ الزكاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور)[3]([4])
إن أمن المجتمع فكريا من أهم وسائل مكافحة الإرهاب بل هو مطلب رئيس لكل أمة إذ هو ركيزة استقرارها وأساس أمانها واطمئنانها فهو كما قيل لب الأمن وركيزته الكبرى [5]
لقد اهتم الإسلام بمنع وتحريم الاعتداء على عقيدة المجتمع المسلم ومحاولة تغييرها والإخلال بأمنهم الفكري والسعي في انحراف الفكر ولاسيما عند الشباب فالأمن الفكري يضطرب إذا انتشرت البدع ولم تكن هناك مرجعية للإفتاء في مسائل تخص المجتمع نفسه وعلاقته بالآخرين ومن ذلك العلاقة مع غير المسلمين كما أن المجتمع بحاجة لفهم التوازن والوسطية والاعتدال ونشرها بين أفراده صغارا وكبارا في ظل طوفان البث الفضائي المرئي والمسموع وظهور شبكة الإنترنت بما فيها من السلبيات والإيجابيات مما جعل مصادر التلقي في مجال الفكر والتربية متعددة ومتنوعة ولم تعد محصورة في المدرسة والمسجد والأسرة وغيرها من مؤسسات المجتمع وقد حمل هذا الطوفان غثاًّ كثيراً وثميناً قليلاً ، إضافة إلى تسويق الانحرافات السلوكية والأخلاقية التي جعلت تيار الوسط يفقد كثيراً من سالكيه لصالح تيار الجفاء والتفريط في ثوابت الفكر والخلق في أكثر الأحيان أو تيار الغلو والإفراط في أحيان أقل .
وبعد هذا أقول : وبهذا تميزت شريعتنا حيث جاءت صالحة لكل زمان ومكان وجاءت للحفاظ على الحياة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان من الحياة البشرية جمعاء بل حتى الحيوان والبيئة كل هذا في شريعتنا ولله الحمد والمنة .
وأقول : إن لكل فعل ردة فعل كما قيل فالفكر العلماني واللبرالي أوجد ردة فعل وهي الفكر المتطرف الغالي .
أقول : إن أمن الأبدان والأموال والأعراض لا يكون إلا بعد الأمن الفكري .
[1]سورة الأعراف الآية 96
[2] سورة الأنعام الآية 82
[3] سورة الحج الآية 41
[4] من خطبة للشيخ عبد الرحمن السديس (بتصرف)
الأمن الفكري د: عبد الرحمن السديس
المفضلات