بقلم: فيصل صالح الخيرى
باطل الاباطيل لكل باطل وقبض ريح.. هذا الاقتباس
عن سفر الجامعة فُي العهد القديم، ان يصدق علي شيء
انما يصدق علي ما آلت اليه الامور في اجهزة الاستخبارات الامريكية، وعلي رأسها جهاز المخابرات المركزية الامريكية ال "سي آي إيه" الذي لا يكاد ينتهي من اختراق حتي يعتوره اختراق اخر، وكان اخر هذه الاختراقات وليس الاخير ذلك الذي قام به "همام البلوي" في قاعدة
"تشابمان" في ولاية "خوست" جنوب شرق افغانستان، واعتبر اكبر ضربة وجهت للاستخبارات الامريكية منذ خمسة وعشرين عاما.
وان دل هذا الاختراق الامني الخطير علي شيء، انما يدل علي ان حصان ال "سي آي إيه" الذي طالما طاف ارجاء الكرة الارضية مجتازا حواجزها، شاء القدر ان تغلق في وجهه الحواجز، ولا تزال الدائرة تضيق عليه يوما بعد يوم ولعلي كنت لا اجد الجرأة للتقدم بمثل هذا الرأي، لو لم تكن نخبة من المحللين الامريكيين، بل قادة سابقين وحاليين في جهاز الاستخبارات الامريكية، قد زودونا بأغلب الحقائق، ومن ذلك ما وجهه "الميجور جنرال مايكل فلين" رئيس المخابرات العسكرية العاملة في افغانستان من انتقادات شديدة اللهجة لعناصر الاستخبارات ووصف عناصرها بالجهل وفقدان البوصلة وخلص الي القول بأن صلة المخابرات الامريكية بالإستراتيجية العامة بعد 8 سنوات علي حرب افغانستان، مجرد صلة هامشية، واوضح ان المخابرات لديها عدد كاف من المحللين في افغانستان، لكنهم في الاماكن الخاطئة ومكلفون بالمهام الخاطئة، وانتهي الي القول بانها عاجزة عن الاجابة عن اسئلة جوهرية حول الاجواء التي تعمل فيها القوات الامريكية والقوات الحليفة وحول الاشخاص الذين تسعي الي اقناعهم للتعاون معهم، وقضية "همام خليل محمد البلوي" نموذجا. وبادئ ذي بدء ثمة ظاهرة تستحق الملاحظة في هذا المجال وهي ان الغالبية ممن قاموا بعملية الحادي عشر من سبتمبر تنتهي اسماؤهم بأسماء القبائل التي ينتمون اليها، كما ينتهي اسم همام بقبيلة "بلي" وهذا من شأنه ان يعني انه لم يبق من ملاذ للافراد والجماعات امام انهيار النظام العربي الحديث الا العودة الي اكناف القبيلة او العشيرة او العائلة، وما توفره هذه الكيانات من عصبية وحماية وانتماء فحيثما تقوي السلطة المركزية تضعف القبيلة، والعكس صحيح. وتستدعي هذه الحقيقة. كما تستدعي هذه القبيلة التي ينتمي اليها همام ان نضعها وضعا يجعلها جزءا من التاريخ.
من المتعارف عليه لدي المؤرخين: ان قبيلة "بلي" من اقوي القبائل العربية بأسا، وذات تاريخ عسكري مجيد، وامتازت بكثرة من ظهر من ابنائها من الصحابة والفرسان المختارين، وتنتسب ـ كما تذكر المراجع التاريخية ـ الي "بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان" ويتمسك معظم ابنائها بهذا النسب .. وعليه بنيت عصبيتهم ومفاخراتهم، والنسبة اليها "بلوي" وقد سكنت اولا الحجاز، واضطرت في حوالي القرن الاول للميلاد الي ان تهجر الحجاز فتتفرق بطونها في المناطق المجاورة، شرق الاردن وفلسطين وسيناء وهكذا يتبين لنا من توزيع بطون "بلي" انهم كانوا علي مقربة من السلطة البيزنطية في بلاد الشام، حيث كانوا في حلف معها، وساهموا في قتال المسلمين في معركة "مؤتة" في الاردن عام 8 هـ وقد وقع بجيش المسلمين ما نعلمه، وكان قائد التحالف القبلي البيزنطي رجلا من "بلي" يقال له "مالك بن رافلة" واذا كانت فروع "بلي" النازلة في الشام قد ناصبت الرسول "صلي الله عليه وسلم" العداء فإن فروعها التي كانت تنزل الحجاز، اقامت معه صلات اكثر ودا ، وكان منهم اوائل الصحابة الذين حسن اسلامهم وقاتلوا مع النبي في "بدر" وحينما ارسل "عمرو بن العاص" في غزوة "ذات السلاسل" اختاره لما كان له من رحم بهم، وكان جيش عمرو يضم بعض البلويين الشماليين، ولم تمض اشهر قليلة علي ذات السلاسل حتي كان وفد من "بلي" يزور الرسول "صلي الله عليه وسلم" في عام الوفود، ويقدم له فروض الطاعة والولاء، بيد أن البلويين لم يتواروا، بل ظلوا يفرضون زعامتهم في توجيه الامورـ فنري بعضهم يرتد عن الاسلام، كما نري بعضهم يسجل نشاطا وبروزا في قضية اغتيال الخليفة الثالث "عثمان بن عفان" فقد كان علي رأس الجيش الذي خرج من مصر الي مقر الخلافة "عبد الرحمن بن عديس البلوي" وكانت النتيجة ـ كما نعرف قتل عثمان عام 35هـ، وعاد عبد الرحمن البلوي بمن معه الي مصر ثانية، ولم يكن "ابن عديس البلوي" هو الوحيد من البلويين الذين ناصبوا بني امية العداء، حيث تذكر لنا المراجع التاريخية اسم "عبد الله بن حرملة البلوي" صاحب الشرطة لمحمد بن ابي بكر الصديق، والي مصر من قبل الخليفة "علي بن ابي طالب" وتتابع فصول الثورة لدي البلويين، فيطالعنا "زهير بن قيس البلوي" حاملا لواء المعارضة ضد الامويين، وينضم الي والي "عبد الله بن الزبير" علي مصر، ويستمر نفوذ "بلي" ونجد لهم مساهمة في الفتوحات الاسلامية للمغرب العربي، فتطالعنا المصادر التاريخية باخبار "زهير بن قيس البلوي" وقد اصبح من قواد "عبد العزيز بن مروان" وقد عقد له اللواء بعد استشهاد "عقبة بن نافع" عام 64هـ واستطاع المسلمون تحت قيادته ان يهزموا جيوش الروم والبربر سنة 70هـ، وظل زهير يخوض المعركة تلو الاخري لترسيخ دعائم الاسلام في شمالي افريقيا حتي استشهد في احداها، وهكذا يمكننا القول علي وجه اليقين ان البلويين كانوا ممن انتهي اليهم الشرف في الجاهلية فوصلوه بالاسلام، فبعد ان اظلت راية الاسلام قبيلة "بلي" تميزت هذه القبيلة بكثرة من ظهر من ابنائها من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والفرسان الفاتحين، ومن اعلام العلماء الذين اثروا الحياة الفكرية للدولة الاسلامية طيلة احقاب من الزمن وفي كنف هذا المجد المؤثل، وتلك العزة الشاملة كانت مراجل الثائرين تغلي وتهدر وتظهر من ان لاخر في ثورات اتعبت من ثار عليهم البلويون، وشغلتهم مدة من الزمان، وكان اخرها ثورة "همام البلوي" علي اولئك الذين عملوا علي ارباك انفسهم بانفسهم، واسقطوا علي الطبيعة تصور عقولهم وخلطوا بين تصورهم للواقع والواقع نفسه، وهذا بدوره جدير بأن يفسر لنا قول "فلين" السالف ذكره، بان الاستخبارات الامريكية عاجزة عن الاجابة عن اسئلة جوهرية حول الاشخاص الذين تسعي الي اقناعهم للتعاون معهم… اما العبر التي يمكن استخلاصها من الاختراق الامني الخطير في جهاز الاستخبارات الامريكية وغير المسبوق،والذي اسفر عن اسوأ هجوم تتعرض له هذه الاستخبارات منذ خمسة وعشرين عاما، ان امريكا وان نجحت في اجتذاب ولاءات بعض الانظمة العربية والاسلامية فقد فشلت في اجتذاب ولاءات شعوبها، والفتوي التي صدرت عن علماء اليمن بالامس اخر تلك النماذج علي استقطاب امريكا للشعوب وغضب الشعوب ملامح مشتركة لا تبشر بمستقبل افضل لامريكا، وربما تقضي المعايير المزدوجة وغياب اخلاقيات السياسة والعسكرية والاستخبارات الامريكية الي نهايات سيذكرها التاريخ.