قال الفضل بن العباس الهاشمي:
كان ناهض بن ثومة الكلابي يفد على جدي قثم، فيمدحه ويصله جدي وغيره، وكان بدوياً جافياً كأنه من الوحش؛ إلا أنه طيب الحديث.
حدثه يوماً : أنهم انتجعوا ناحية الشام فقصد صديقاً له من خالد بن يزيد بن معاوية؛ كان ينزل حلب وكان براً به.
قال : فمررت بقرية يقال لها قرية بكر بن عاصم الهلالي، فرأيت دوراً متباينة وخصاصاً قد ضم بعضها إلى بعض، وإذا بها ناس كثيرون مقبلون ومدبرون، عليهم ثياب تحكي ألوان الزهر فقلت في نفسي : هذا أحد العيدين : الأضحى أو الفطر، ثم ثاب إليّ ماعزب عن عقلي؛ فقلت : خرجت من أهلي في بادية البصرة في صفر، وقد مضى العيدان قبل ذلك؛ فما هذا الذي أرى!
وبينما أنا واقف متعجب أتاني رجل، فأخذ بيدي فأدخلني داراً قوراء، وأدخلني منها بيتاً قد نجدت فيه فرش ومهدت، وعليها شاب ينال فرع شعره منكبيه، والناس حوله سماطان، فقلت في نفسي : هذا الأمير الذي حكى لنا جلوسه، وجلوس الناس بين يديه. فقلت - وأنا ماثل بين يديه : السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. فجذب رجل يدي وقال : اجلس، فإن هذا ليس بأمير قلت : فمن هو ؟ قال : عروس. فقلت : واثكل أماه ! لرب عروس رأيته بالبادية أهون على أهله من هن أمه
فلم أنشب أن دخل رجال يحملون آنات مدورات، أما ما خف منها فيحمل حملا، وأما ما كبر وثقل فيدحرج، فوضع ذلك أمامنا، وتحلق القوم عليه حلقاً، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا، فظننتها ثياباً، وهممت أن أسأل القوم منها خرقاً أرقع بها قميصي، وذلك أني رأيت نسجاً متلاحماً، لا يبين له سدى ولا لحمة؛ فلما بسطه القوم بين أيديهم إذا هو يتمزق سريعاً. وإذا هو فيما زعموا صنف من الخبز لا أعرفه.
ثم أتينا بطعام كثير بين حلو وحامض، وحار وبارد، فأكثرت منه، وأنا لا أعلم ما في عقبه من التخم والبشم، ثم أتينا بشراب أحمر في شن، فقلت : لا حاجة لي فيه، فإني أخاف أن يقتلني وكان إلى جنبي رجل ناصح - أحسن الله جزاءه، فإنه كان ينصح لي من بين أهل المجلس - فقال : يا أعرابي؛ إنك قد أكثرت من الطعام، وإن شربت الماء هنا بطنك فلما ذكر البطن تذكرت شيئاً أوصاني به أبي، والأشياخ من أهلي، إذ قالوا : لا تزال حيا مادام بطنك شديداً، فإذا اختلف فأوص. فشربت من ذلك الشراب لأتداوى به، وجعلت أكثر منه فلا أمل شربه، فتداخلني من ذلك صلف لا أعرفه من نفسي، وبكاء لا أعرف سببه، ولا عهد لي بمثله، واقتدار على أمر أظن معه أني لو أردت نيل السقف لبلغته، ولو شأوت الأسد لقتلته : وجعلت ألتفت إلى الرجل الناصح، فتحدثني نفسي بهتم أسنانه، وهشم أنفه، وأهم أحياناً أن أقول له : يا ابن الزانية
فبينما نحن كذلك إذ هجم علينا شياطين أربعة : أحدهم قد علق في عنقه جعبة فارسية، مفتحة الطرفين، دقيقة الوسط، قد شبكت بخيوط، وألبست قطعة فرو، كأنهم يخافون عليها القر. ثم بدر الثاني، فاستخرج من كمة هنة سوداء فوضعها في فيه، وأخرج صوتاً لم أسمع - وبيت الله - أعجب منه، فاستتم بها أمرهم، ثم حرك أصابعه - بصوت عجيب، متلائم متشا كل بعضه لبعض، وكأنه - علم الله - ينطق به. ثم بدأت ثالث له وجه كز مقيت، عليه قميص وسخ ومعه مرآتان فجعل يصفق بهما بيديه إحداهما على الأخرى، فخالط بصوته ما يفعله الرجلان. ثم بدا رابع عليه قميص، وسراويل قصيرة، وخفان أجذمان، لا ساق لواحد منهما، فجعل يقفز كأنه يثب على ظهور العقارب، ثم تلبط على الأرض، فقلت : معتوه ورب الكعبة ! ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي، ورأيت القوم يحذفونه بالدراهم حذفاً منكراً؛ ثم أرسل النساء إلينا : أن أمتعونا من لهوكم هذا؛ فبعثوا بهم، وجعلنا نسمع أصواتهم من بعد.
كان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات بالثناء عليه والدعاء له، فخرج وجاء بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من خلالها عوداً، فوضعه خلف أذنه، ثم عرك آذانها، وحركها بخشبة في يده، فنطقت ورب الكعبة ! وإذا هي أحسن قينة رأيتها قط ! فأطربني حتى استخفني من مجلسي، فوثبت وجلست بين يديه، وقلت : بأبي أنت وأمي ! ما هذه الدابة ؟ فلست أعرفها للأعراب، وما أراها خلقت إلا قريباً ! فقال : هذا البربط. فقلت : بأبي أنت وأمي ! فما هذا الخيط الأسفل ؟ قال : الزير. قلت : فالذي يليه ؟ قال : المثنى. قلت : فالثالث ؟ قال : المثلث. قلت : فالأعلى ؟ قال : البم. فقلت : آمنت بالله.
قال الفضل : فضحك أبي والله حتى سقط، وجعل ناهض يعجب من ضحكه ! ثم كان بعد ذلك يستعيده هذا الحديث؛ ويطرف به إخوانه فيضحكون منه.
من كتاب (الأغاني) ج 5 أخبار ناهض بن ثومة
كان ناهض بن ثومة الكلابي يفد على جدي قثم، فيمدحه ويصله جدي وغيره، وكان بدوياً جافياً كأنه من الوحش؛ إلا أنه طيب الحديث.
حدثه يوماً : أنهم انتجعوا ناحية الشام فقصد صديقاً له من خالد بن يزيد بن معاوية؛ كان ينزل حلب وكان براً به.
قال : فمررت بقرية يقال لها قرية بكر بن عاصم الهلالي، فرأيت دوراً متباينة وخصاصاً قد ضم بعضها إلى بعض، وإذا بها ناس كثيرون مقبلون ومدبرون، عليهم ثياب تحكي ألوان الزهر فقلت في نفسي : هذا أحد العيدين : الأضحى أو الفطر، ثم ثاب إليّ ماعزب عن عقلي؛ فقلت : خرجت من أهلي في بادية البصرة في صفر، وقد مضى العيدان قبل ذلك؛ فما هذا الذي أرى!
وبينما أنا واقف متعجب أتاني رجل، فأخذ بيدي فأدخلني داراً قوراء، وأدخلني منها بيتاً قد نجدت فيه فرش ومهدت، وعليها شاب ينال فرع شعره منكبيه، والناس حوله سماطان، فقلت في نفسي : هذا الأمير الذي حكى لنا جلوسه، وجلوس الناس بين يديه. فقلت - وأنا ماثل بين يديه : السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. فجذب رجل يدي وقال : اجلس، فإن هذا ليس بأمير قلت : فمن هو ؟ قال : عروس. فقلت : واثكل أماه ! لرب عروس رأيته بالبادية أهون على أهله من هن أمه
فلم أنشب أن دخل رجال يحملون آنات مدورات، أما ما خف منها فيحمل حملا، وأما ما كبر وثقل فيدحرج، فوضع ذلك أمامنا، وتحلق القوم عليه حلقاً، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا، فظننتها ثياباً، وهممت أن أسأل القوم منها خرقاً أرقع بها قميصي، وذلك أني رأيت نسجاً متلاحماً، لا يبين له سدى ولا لحمة؛ فلما بسطه القوم بين أيديهم إذا هو يتمزق سريعاً. وإذا هو فيما زعموا صنف من الخبز لا أعرفه.
ثم أتينا بطعام كثير بين حلو وحامض، وحار وبارد، فأكثرت منه، وأنا لا أعلم ما في عقبه من التخم والبشم، ثم أتينا بشراب أحمر في شن، فقلت : لا حاجة لي فيه، فإني أخاف أن يقتلني وكان إلى جنبي رجل ناصح - أحسن الله جزاءه، فإنه كان ينصح لي من بين أهل المجلس - فقال : يا أعرابي؛ إنك قد أكثرت من الطعام، وإن شربت الماء هنا بطنك فلما ذكر البطن تذكرت شيئاً أوصاني به أبي، والأشياخ من أهلي، إذ قالوا : لا تزال حيا مادام بطنك شديداً، فإذا اختلف فأوص. فشربت من ذلك الشراب لأتداوى به، وجعلت أكثر منه فلا أمل شربه، فتداخلني من ذلك صلف لا أعرفه من نفسي، وبكاء لا أعرف سببه، ولا عهد لي بمثله، واقتدار على أمر أظن معه أني لو أردت نيل السقف لبلغته، ولو شأوت الأسد لقتلته : وجعلت ألتفت إلى الرجل الناصح، فتحدثني نفسي بهتم أسنانه، وهشم أنفه، وأهم أحياناً أن أقول له : يا ابن الزانية
فبينما نحن كذلك إذ هجم علينا شياطين أربعة : أحدهم قد علق في عنقه جعبة فارسية، مفتحة الطرفين، دقيقة الوسط، قد شبكت بخيوط، وألبست قطعة فرو، كأنهم يخافون عليها القر. ثم بدر الثاني، فاستخرج من كمة هنة سوداء فوضعها في فيه، وأخرج صوتاً لم أسمع - وبيت الله - أعجب منه، فاستتم بها أمرهم، ثم حرك أصابعه - بصوت عجيب، متلائم متشا كل بعضه لبعض، وكأنه - علم الله - ينطق به. ثم بدأت ثالث له وجه كز مقيت، عليه قميص وسخ ومعه مرآتان فجعل يصفق بهما بيديه إحداهما على الأخرى، فخالط بصوته ما يفعله الرجلان. ثم بدا رابع عليه قميص، وسراويل قصيرة، وخفان أجذمان، لا ساق لواحد منهما، فجعل يقفز كأنه يثب على ظهور العقارب، ثم تلبط على الأرض، فقلت : معتوه ورب الكعبة ! ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي، ورأيت القوم يحذفونه بالدراهم حذفاً منكراً؛ ثم أرسل النساء إلينا : أن أمتعونا من لهوكم هذا؛ فبعثوا بهم، وجعلنا نسمع أصواتهم من بعد.
كان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات بالثناء عليه والدعاء له، فخرج وجاء بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من خلالها عوداً، فوضعه خلف أذنه، ثم عرك آذانها، وحركها بخشبة في يده، فنطقت ورب الكعبة ! وإذا هي أحسن قينة رأيتها قط ! فأطربني حتى استخفني من مجلسي، فوثبت وجلست بين يديه، وقلت : بأبي أنت وأمي ! ما هذه الدابة ؟ فلست أعرفها للأعراب، وما أراها خلقت إلا قريباً ! فقال : هذا البربط. فقلت : بأبي أنت وأمي ! فما هذا الخيط الأسفل ؟ قال : الزير. قلت : فالذي يليه ؟ قال : المثنى. قلت : فالثالث ؟ قال : المثلث. قلت : فالأعلى ؟ قال : البم. فقلت : آمنت بالله.
قال الفضل : فضحك أبي والله حتى سقط، وجعل ناهض يعجب من ضحكه ! ثم كان بعد ذلك يستعيده هذا الحديث؛ ويطرف به إخوانه فيضحكون منه.
من كتاب (الأغاني) ج 5 أخبار ناهض بن ثومة
تعليق